فصل: تفسير الآيات رقم (67- 70)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 70‏]‏

‏{‏لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

ولما كانوا بصدد أن يقولوا تهكماً‏:‏ كن كذلك، فلا علينا منك‏!‏ قال مهدداً‏:‏ ‏{‏لكل‏}‏ وأشار إلى جلالة خبره بقوله‏:‏ ‏{‏نبإٍ‏}‏ أي خبر أخبرتكم به من هذه الأخبار العظيمة، ومعنى ‏{‏مستقر‏}‏ موضع ووقت قرار من صدق أو كذب، أي لا بد أن يحط الخبر على واحد منهما، لا ينفك خبر من الأخبار عن ذلك ‏{‏وسوف تعلمون*‏}‏ أي محط خبره العظيم بوعد صادق لا خلف فيه وإن تأخر وقوعه‏.‏

ولما أمره بما يقول جواباً لتكذيبهم، تقدم إليه فيما يفعل وقت خوضهم في التكذيب فقال‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت‏}‏ خاطب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ليكون أردع ‏{‏الذين يخوضون‏}‏ أي يتكلمون ‏{‏في آياتنا‏}‏ أي بغير تأمل ولا بصيرة بل طوع الهوى، كما يفعل خائض الماء في وضعه لرجله على غير بصيرة لستر مواضع الخُطا وبغير تمام الاختيار لغلبة الماء ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ بترك المجالسة أو ما يقوم مقامها؛ ولما كان الخوض في الآيات دالاً على قلة العقل قال‏:‏ ‏{‏حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ فحكم على حديثهم فيما سوى ذلك أيضاً بالخوض، لأن فيه الغث والسمين، لأنه غير مقيد بنظام الشرع‏.‏

ولما كان الله تعالى- وله الحمد- قد رفع حكم النسيان عن هذه الأمة، قال مؤكداً‏:‏ ‏{‏وإما ينسينك الشيطان‏}‏ أي إنساء عظيماً إشارة إلى أن مثل هذا الأمر جدير بأن لا ينسى ‏{‏فلا تقعد بعد الذكرى‏}‏ أي التذكر لهذا النهي ‏{‏مع القوم الظالمين *‏}‏ أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على الوصف الذي هو سبب الخوض، وهو الكون في الظلام‏.‏

ولما كانت هذه الآية مكية، وكانوا إذ ذاك عاجزين عن الإنكار بغير القلب، قال‏:‏ ‏{‏وما على الذين يتقون‏}‏ أي يخافون الله فلا يكذبون بآياته في مجالسة الكفرة ‏{‏من حسابهم‏}‏ أي الخائضين إذا كانوا أقوى منهم ‏{‏من شيء‏}‏ وما نهينا عن المجالسة لأن عليهم فيها- والحالة هذه- إثماً ‏{‏ولكن‏}‏ نهينا لتكون المفارقة إظهاراً للكراهة ‏{‏ذكرى‏}‏ للخائضين لاستحيائهم من أذى الجليس ‏{‏لعلهم يتقون *‏}‏ أي ليكون حالهم بذلك حال من يرجى منه التقوى، فيجتنب الخوض في الآيات إكراماً للجليس‏.‏

ولما أبرز هذا الأمر في صيغة النهي، أعاده بصيغة الأمر اهتماماً به وتأكيداً له، وأظهر لهم وصفاً آخر هو غاية الوصف الأول مع ما ضم إليه من الإرشاد إلى الإنقاذ من المعاطب فقال‏:‏ ‏{‏وذر‏}‏ أي اترك أي ترك كان ولو كان على أدنى الوجوه ‏{‏الذين اتخذوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم في اتباع الهوى بمخالفة العقل المستقيم والطبع الفطري السليم بأن أخذوا ‏{‏دينهم‏}‏ على نمط الأسخف من دنياهم؛ ولما كان الدين ملكة راسخة في النفس، ولا شيء من كيفيات النفس أرسخ منها ولا أثبت، وهو أشرف ما عند الإنسان، وكان اللعب ضده لا شيء أسرع من انقضائه ولا أوهى من بنائه، قال ذامّاً لهم بأنهم بدلوا مقصود هذه السورة- الذي هو من الاستدلال على التوحيد الذي لا أشرف منه مطلقاً ولا أعلى ولا أنفس بوجه ولا أحلى- بما لا أدنى منه ولا أوهى ولا أمحق للمروءة ولا أدهى‏:‏ ‏{‏لعباً‏}‏ ولما كان ربما قيل‏:‏ إنهم إذا انقضى اللعب عادوا إلى الاشتغال بالدين، أتبعه الباعث عليه إشارة إلى أنه كلما ملوا اللعب بعثوا النفوس إليه باللهو كما ترى الراقص كلما فتر في رقصة بعثوه عليه بتقوية اللهو أو الانتقال من فن إلى آخر من فنونه وشأن بديع من شؤونه فقال‏:‏ ‏{‏ولهواً‏}‏ أي في الاستهزاء بالدين الحق بالمكاء والتصدية وبالبحائر والسوائب وغير ذلك، فلا تبال بهم ولا يشغل قلبك بهم ‏{‏وغرتهم‏}‏ أي خدعتهم ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ التي هم من أعرف الناس بزوالها، وأن كل من بها هالك، فمنَتْهم النعم التي منَّ عليهم سبحانه بها فيما لا ينالونه من السعادة إلا باتباع أوامره واجتناب نواهيه‏.‏

ولما كان ربما أفهم ذلك تركهم في كل حالة، نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏وذكر به‏}‏ أي تحديث الآيات، وهي القرآن المتجدد إنزاله، والضمير في الحقيقة للآيات، أي دعهم يفعلوا ما أرادوا، لا تبال بشيء من ذلك، ولا تترك وعظّهم بهذا القرآن، أي ما عليك إلا البلاغ، لم نكلفك في هذه الحالة أكثر منه ‏{‏أن تبسل‏}‏ قال في المجمل‏:‏ البسل‏:‏ النخل، وأبسلته‏:‏ أسلمته للهلكة، فالمعنى‏:‏ كراهة أن تخلي وتسلم ‏{‏نفس بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏كسبت‏}‏ في دنياها كائنة ‏{‏ليس لها من دون الله‏}‏ أي المنفرد بالعظمة ‏{‏ولي‏}‏ أي يتولى نصرها ‏{‏ولا شفيع‏}‏ ينقذها بشفاعته‏.‏

ولما كان الفداء من اسباب الخلاص قال‏:‏ ‏{‏وإن تعدل‏}‏ أي تلك النفس لأجل التوصل إلى الفكاك ‏{‏كل عدل‏}‏ أي كل شيء يظن أنه يعدلها ولو كان أنفس شيء؛ «ولما» كان الضار عدم الأخذ، لا كونه من معين، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤخذ منها‏}‏ ولما أنتج ذلك قطعاً أن من هذا حاله هالك، قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الذين عملوا هذه الأعمال البعيدة عن الخير ‏{‏الذين أبسلوا‏}‏ أي أسلموا ‏{‏بما كسبوا‏}‏ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏لهم شراب من حميم‏}‏ أي هو غاية الحر يصهر به ما في بطونهم بما اعتقدوا في الآيات ما ظهر على ألسنتهم ‏{‏وعذاب أليم‏}‏ أي يعم دائماً ظواهرهم وبواطنهم بما ظهر عليهم من ذلك بعد ما بطن ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏كانوا يكفرون *‏}‏ أي يجددون من تغطية الآيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

ولما تقرر أن غير الله لا يمنع من الله بنوع، لا آلهتهم التي زعموا أنها شفعاؤهم ولا غيرها، ثبت أنهم على غاية البينة من أن كل ما سواء لا ينفع شيئاً ولا يضر، فكان في غاية التبكيت لهم قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي بعد ما أقمت من الأدلة على أنه ليس لأحد مع الله أمر، منكراً عليهم موبخاً لهم ‏{‏أندعوا‏}‏ أي دعاء عبادة، وبين حقارة معبوداتهم فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي المنفرد بجميع الأمر‏.‏

ولما كان السياق لتعداد النعم ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏ ‏{‏خلقكم من طين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏يطعم ولا يطعم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏ويرسل عليكم حفظة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏ ‏{‏من ينجيكم من ظلمات البر والبحر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 63‏]‏ ‏{‏الله ينجيكم منها ومن كل كرب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 64‏]‏ قدم النفع في قوله‏:‏ ‏{‏ما لا ينفعنا ولا يضرنا‏}‏ أي لا يقدر على شيء من ذلك، ليكونوا على غاية اليأس من اتباع حزب الله لهم، وهذا كالتعليل لقوله ‏{‏إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ولما ذكر عدم المنفعة في دعائهم، أشار إلى وجود الخسارة في رجائهم فقال‏:‏ ‏{‏ونرد‏}‏ أي برجوعنا إلى الشرك، وبناه للمفعول لأن المنكر الرد نفسه من أيّ راد كان ‏{‏على أعقابنا‏}‏ أي فنأخذ في الوجه المخالف لقصدنا فنصير كل وقت في خسارة بالبعد عن المقصود ‏{‏بعد إذ هدانا الله‏}‏ أي الذي لا خير إلا وهو عنده ولا ضر إلا وهو قادر عليه، إلى التوجه نحو المقصد، ووفقنا له وأنقذنا من الشرك‏.‏

ولما صور حالهم، مثَّلَه فقال‏:‏ ‏{‏كالذي‏}‏ أي نرد من علو القرب إلى المقصود إلى سفول البعد عنه رداً كرد الذي ‏{‏استهوته‏}‏ أي طلبت مزوله عن درجته ‏{‏الشياطين‏}‏ فأنزلته عن أفق مقصده إلى حضيض معطبه، شبه حاله بحال من سقط من عال في مهواة مظلمة فهو في حال هويه في غاية الاضطراب وتحقق التلف والعمى عن الخلاص ‏{‏في الأرض‏}‏ حال كونه ‏{‏حيران‏}‏ تائهاً ضالاً لا يهتدي لوجهه ولا يدري كيف يسلك ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏له‏}‏ أي هذا الذي هوى ‏{‏أصحاب‏}‏ أي عدة، ولكنه لتمكن الحيرة منه لا يقبل ‏{‏يدعونه إلى الهدى‏}‏ وبين دعاءهم بقوله‏:‏ ‏{‏ائتنا‏}‏ وهو قد اعتسف المهمة تابعاً للشياطين، لا يجيبهم ولا يأتيهم لأنه قد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين العبر والنزوان‏.‏

ولما كان هذا مما يعرفونه وشاهدوه مراراً، وكانوا عالمين بأن دعاء أصحابه له في غاية النصيحة والخير، وأنه إن تبعهم نجا، وإلا هلك هلاكاً لا تدارك له، فكان جوابهم‏:‏ إن دعاء أصحابه به لهدى، بين أنه مضمحل تافه جداً بحيث إنه يجوز أن يقال‏:‏ ليس هدى بالنسبة إلى هذا الذي يدعوهم إليه، بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن هدى الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏هو‏}‏ أي خاصة ‏{‏الهدى‏}‏ أي لا غيره كدعاء أصحاب المستهوي، بل ذاك الهدى مع إنقاذه من الهلاك إلى جنب هذا الهدى كلا شيء، لأن الشيء هو الموصل إلى سعادة الأبد‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فقد أمرنا أن نلزمه ونترك كل ما عداه، عطف عليه أمراً عاماً فقال‏:‏ ‏{‏وأمرنا لنسلم‏}‏ أي ورد علينا الأمر ممن لا أمر لغيره بكل ما يرضيه لأن نسلم بأن نوقع الإسلام وهو الانقياد التام فنتخلى عن كل هوى، وأن نقيم الصلاة بأن نوقعها بجميع حدودها الظاهرة والباطنة فنتحلى بفعلها أشرف حلى ‏{‏لرب العالمين *‏}‏ أي لإحسانه إلى كل أحد بكل شيء خلقه؛ ثم فسر المأمور به، فكأنه قال‏:‏ أن أسلموا ‏{‏وأن أقيموا الصلاة‏}‏ لوجهه ‏{‏واتقوه‏}‏ مع ذلك، أي افعلوها لا على وجه الهزء واللعب، بل على وجه التقوى والمراقبة ليدل ما ظهر منها على ما بطن من الإسلام للمحسن‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فهو الذي ابتدأ خلقكم من طين فإذا أنتم بشر مصورون، وجعلكم أحياء فبقدرته على مدى الأيام تنتشرون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي إليه‏}‏ أي لا إلى غيره بعد بعثكم من الموت ‏{‏تحشرون *‏}‏ فأتى بالبعث الذي هم له منكرون لكثرة ما أقام من الأدلة على تمام القدرة في سياق دال على أنه مما لا مجال للخلاف فيه، وأن النظر إنما هو فيما وراء ذلك، وهو أن عملهم للباطل سوَّغ تنزيلهم منزلة من يعتقد أنه يحشر إلى غيره سبحانه ممن لا قدرة له على جزائهم، فأخبرهم أن الحشر إليه لا إلى غيره، لأنه لا كلام هناك لسواه، فلا علق بين المحشورين ولا تناصر كما في الدنيا، والجملة مع ذلك كالتعليل للأمر بالتقوى، وقد بان أن الآية من الاحتباك، فإنه حذف الصلاة أولاً لدلالة ذكرها ثانياً، والإسلام ثانياً لدلالة ذكره أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

ولما كانوا بعبادة غيره تعالى- مع إقرارهم بأنه هو خالق السماوات والأرض- في حال من يعتقد أن ذلك الذي يعبدونه من دونه هو الذي خلقهما، أو شاركاً فيهما‏.‏ فلا قدرة لغيره على حشر من في مملكته، قال تعالى منبهاً لهم من غفلتهم وموقظاً من رقدتهم معيداً الدليل الذي ذكره أول السورة على وجه آخر‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي خلق‏}‏ أي أوجد واخترع وقدر ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ أي على عظمهما وفوت ما فيهما من الحكم والمنافع الحصر ‏{‏بالحق‏}‏ أي بسبب إقامة الحق، وأنتم ترون أنه غير قائم في هذه الدار ولا هو قريب من القيام، فوجب على كل من يعلم أن الله حكيم خبير أن يعتقد أنه لا بد من بعثة العباد بعد موتهم- كما وعد بذلك- ليظهر العدل بينهم، فيبطل كل باطل ويحق كل حق، ويظهر الحكم لجميع الخلق‏.‏

ولما قرر أن إقامة الحق هي المراد، قرر قدرته عليها بقوله‏:‏ ‏{‏ويوم يقول‏}‏ أي للخلق ولكل شيء يريده في هذه الدار وتلك الدار ‏{‏كن فيكون *‏}‏ أي فهو يكون لا يتخلف أصلاً‏.‏

ولما قرر أنه لا يتخلف شيء عن أمره، علله فقال‏:‏ ‏{‏قوله الحق‏}‏ أي لا قول غيره، لأن أكثر قول غيره باطل، لأنه يقول شيئاً فلا يكون ما أراد؛ ولما كان في مقام الترهيب من سطوته، قال مكرراً لقوله «وهو الذي إليه تحشرون»‏:‏ ‏{‏وله‏}‏ أي وحده بحسب الظاهر والباطن ‏{‏الملك يوم‏}‏ ولما كان المقصود تعظيم النفخة، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏ينفخ في الصور‏}‏ لانقطاع العلائق بين الخلائق، لا كما ترون في هذه الدار من تواصل الأسباب، وقولُه-‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ وهو ما غاب عن كل ما سواه سبحانه ‏{‏والشهادة‏}‏ وهو ما صار بحيث يطلع عليه الخلق- مع كونه علة لما قبله من تمام القدرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه من تمام الترهيب، أي أنه لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فاحذروا جزاءه يوم تنقطع الأسباب، ويذهب التعاضد والتعاون، وهو على عادته سبحانه في أنه ما ذكر أحوال البعث إلاّ قرر فيه أصلين‏:‏ القدرة على جميع الممكنات، والعلم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، لأنه لا يقدر على البعث إلا من جمع الوصفين ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الحكيم‏}‏ أي التام الحكمة، فلا يضع شيئاً في غير محله ولا على غير أحكام، فلا معقب لأمره، فلا بد من البعث ‏{‏الخبير *‏}‏ بجميع الموارد والمصادر، فلا خفاء لشيء من أفعال أحد من الخلق عليه في ظاهر ولا باطن ليهملهم عن الحساب‏.‏

ولما كان مضمون هذه الآيات مضمون الآيات الثلاث المفتتح بها السورة الهادمة لمذهب الثنوية، وهم أهل فارس قوم إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام يعرف بفضله جميع الطوائف، لأن أكثرهم من نسله كاليهود والنصارى والمشركين من العرب، والمسلمون لما يعلمون من إخلاصه لله تعالى وانتصابه لمحاجة من أشرك به واحتمال الأذى فيه سبحانه، تلاها بمحاجته لهم بما أبطل مذهبهم وأدحض حججهم فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكر ذلك المتقدم كله لهم في الدلائل على اختصاصنا بالخلق وتمام القدرة، ما أعظمه وما أجله وأضخمه‏!‏ وتفكر في عجائبه وتدبر في دقائقه وغرائبه تجد ما لا يقدر على مثله إلا الله، واذكر إذ ‏{‏قال إبراهيم‏}‏ أي اذكر قوله، وحكمة التذكير بوقته التنبيهُ على أن هذا لم يزل ثابتاً مقرراً على ألسنة جميع الأنبياء في جميع الدهور، وكان في هذه المحاجة التصريح بما لوح إليه أول هذه السورة من إبطال هذا المذهب، وانعطف هذا على ذاك أيّ انعطاف‏!‏ وصار كأنه قيل‏:‏ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الأصنام والنجوم والنور والظلمة، فنبههم يا رسول الله على ذلك بأنه لا متصرف غيرنا، اذكر لهم أني أنا الذي خلقتهم وخلقت جميع ما يشاهدون من الجواهر والأعراض، فإن تنبهوا فهو حظهم، وإلا فاذكر لهم محاجة خليلنا إبراهيم عليه السلام إذ قال ‏{‏لأبيه‏}‏ ثم بينه في قراءة الجر بقوله‏:‏ ‏{‏آزر‏}‏ وناداه في قراءة يعقوب بالضم؛ قال البخاري في تاريخه الكبير‏:‏ إبراهيم بن آزر وهو في التوراة‏:‏ تارح- انتهى‏.‏

وقد مضى ذلك عن التوراة في البقرة، فلعل أحدها لقب، وكان أهل تلك البلاد وهم الكلدانيون، ويقال لهم أيضاً الكسدانيون- بالمهملة موضع اللام- يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض ويجعلون لكل نجم صنماً، إذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم- كما زعموا- إلى النجم، فقال عليه السلام لأبيه منكراً عليه منبهاً له على ظهور فساد ما هو مرتكبه‏:‏ ‏{‏أتتخذ‏}‏ أي أتكلف نفسك إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل ‏{‏أصناماً آلهة‏}‏ أي تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر، فنبهه بهذا الإنكار على أن معرفة بطلان ما هو متدين به لا يحتاج إلى كثير تأمل، بل هو أمر بديهي أو قريب منه، فإنهم يباشرون أمرها بجميع جوانبهم ويعلمون أنها مصنوعة وليست بصانعة، وكثرتها تدل على بطلان إلهيتها بما أشار إليه قوله تعالى ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

ولما خص بالنصيحة أقرب الخلق إليه، عم بقية أقاربه فقال‏:‏ ‏{‏إني أراك وقومك‏}‏ أي في اتفاقكم على هذا ‏{‏في ضلال‏}‏ أي بُعد عن الطريق المستقيم ‏{‏مبين *‏}‏ أي ظاهر جداً ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبي نبأه الله تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده، فهو مع ظهوره في نفسه مظهر للحق من أن الإله لا يكون إلا كافياً لمن يعبده، وإلا كان فقيراً إلى تأله من يكفيه‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ بصرنا إبراهيم عليه السلام هذا التبصير في هذا الأمر الجريء من بطلان الأصنام، قال عاطفاً عليه‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل هذا التبصير العظيم الشأن، وحكى الحال الماضية بقوله‏:‏ ‏{‏نري‏}‏ أي بالبصر والبصيرة على مر الزمان وكر الشهور والأعوام إلى ما لا آخر له بنفسه والصلحاء من أولاده ‏{‏إبراهيم ملكوت‏}‏ أي باكن ملك التوحيد فيعلم أن كل من عبد غير الله صنم وغيره من قومه وغيرهم في ضلال، كما علم ذلك في قومه في الأصنام ‏{‏وليكون من الموقنين *‏}‏ أي الراسخين في وصف الإيقان في أمر التوحيد كله بالنسبة إلى جميع الجزئيات لما أريناه ببصره وبصيرته، فتأمل فيه حتى وقع فيه بعد علم اليقين على عين اليقين بل حق اليقين‏.‏

ولما كانت الأمور السماوية مشاهدة لجميع الخلق‏:‏ دانيهم وقاصيهم، وهي أشرف من الأرضية، فإذا بطلت صلاحيتها للإلهية بطلت الأرضية من باب الأولى؛ نصب لهم الحجاج في أمرها، فقال مسبباً عن الإراءة المذكورة‏:‏ ‏{‏فلما جن‏}‏ أي ستر وأظلم، وقصره- وإن كان متعدياً- دلالة على شدة ظلام تلك الليلة، ولذلك عداه بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليه الّيل‏}‏ أي وقع الستر عليه، فحجب ملكوت الأرض فشرع ينظر في ملكوت السماء ‏{‏رأى كوكباً‏}‏ أي قد بزغ، فكأنه قيل‏:‏ فماذا فعل‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال هذا ربي‏}‏ فكأنه مِنْ بَصْرِه أن أتى بهذا الكلام الصالح لأن يكون خبراً واستفهاماً، ليوهمهم أنه مخبر، فيكون ذلك انفى للغرض وأنجى من الشعب، فيكون أشد استجلاباً لهم إلى إنعام النظر وتنبيهاً على موضع الغلط وقبول الحجة، ولمثل ذلك ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏فلما أفل‏}‏ أي غاب بعد ذلك الظهور الذي كان آية سلطان ‏{‏قال لا أحب الآفلين *‏}‏ لأن الأفول حركة، والحركة تدل على حدوث المتحرك وإمكانه، ولا نظن أن يظن به أنه قال ما قاله أولاً عن اعتقاد ربوبية الكواكب، لأن الله تعالى قد دل على بطلان هذا التوهم بالإخبار بأنه أراه ملكوت الخافقين وجعله موقناً، فاسند الأمر إلى نفسه تنبيهاً لهم، واستدل بالأفول لأن دلالته لزوال سلطانه وحقارة شأنه اتم، ولم يستدل بالطلوع لأنه- وإن كان حركة دالة على الحدوث والنقصان- شرف في الجملة وسلطان، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، والممكن لا بد له من موجد واجب الوجود، يكون منتهى الآمال ومحط الرحال ‏{‏وأن إلى ربك المنتهى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏ والأوساط يفهمون منه الحدوث للحركة، فلا بد من الأستناد إلى قديم، والعوام يفهمون أن الغارب كالمعزول لزوال نوره وسلطانه، وأن ما كان كذلك لا يصلح للإلهية، وخص الأفول أيضاً لأن قومه الفرس كانوا منجمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان صاعداً من المشرق إلى وسط السماء كان قوياً عظيم التأثير، فإذا كان نازلاً إلى المغرب كان ضعيف الأثر، والإله هو من لا يتغير، وهذا الاستدلال برهان في أن أصل الدين مبني على الحجة دون التقليد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

ولما بصرهم قصور صغير الكواكب، رقي النظر إلى أكبر منه، فسبب عن الإعراض عن الكواكب لقصوره قولَه‏:‏ ‏{‏فلما رأى القمر بازغاً‏}‏ أي طالعاً أول طلوعه؛ قال الأزهري‏:‏ كأنه مأخوذ من البزغ الذي هو الشق، كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً ‏{‏قال هذا ربي‏}‏ دأبَه في الأولى‏.‏

ولما كان تأمل أن الكوكب محل الحوادث بالأفول قد طرق أسماعهم فخالج صدورهم، قال‏:‏ ‏{‏فلما أفل قال‏}‏ مؤكداً غاية التأكيد ‏{‏لئن لم يهدني ربي‏}‏ أي الذي قدر على الإحسان إليّ بالإيجاد والتربية لكونه لا يتغير ولا شريك له بخلق الهداية في قلبي، فدل ذلك على أن الهداية ليست إلى غيره، ولا تحمل على نصب الأدلة، لأنها منصوبة قبل ذلك، ولا على معرفة الاستدلال فإنه عارف به ‏{‏لأكونن‏}‏ أي بعبادة غيره ‏{‏من القوم الضالين *‏}‏ فكانت هذه أشد من الأولى وأقرب إلى التصريح بنفي الربوبية عن الكواكب وإثبات أن الرب غيرها، مع الملاطفة وإبعاد الخصم عما يوجب عناده‏.‏

ولما كان قد نفي عن الأجرام السماوية ما ربما يضل به الخصم قال‏:‏ ‏{‏فلما رأى‏}‏ أي بعينه ‏{‏الشمس بازغة‏}‏ أي عند طلوع النهار وإشراق النور الذي ادعوا فيه ما ادعوا ‏{‏قال‏}‏ مبيناً لقصور ما هو أكبر من النور وهو ما عنه النور ‏{‏هذا‏}‏ مذكراً إشارتَه لوجود المسوغ، وهو تذكير الخبر إظهاراً لتعظيمها إبعاداً عن التهمة، وتنبيهاً من أول الأمر على أن المؤنث لا يصلح للربوبية ‏{‏ربي‏}‏ كما قال فيما مضى؛ ثم علل ذلك بياناً للوجه الذي فارق فيه ما مضى فأورث شبهة، فقال‏:‏ ‏{‏هذا أكبر‏}‏ أي مما تقدم ‏{‏فلما أفلت‏}‏ أي غربت فخفي ظهورها وغلب نورها وهزمه جيش الظلام بقدرة الملك العلام ‏{‏قال يا قوم‏}‏ فصرح بأن الكلام لهم أجمعين، ونادى على رؤوس الأشهاد‏.‏

ولما كانت القلوب قد فرغت بما ألقي من هذا الكلام المعجب للحجة، وتهيأت لقبول الحق، ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إني بريء مما تشركون *‏}‏ أي من هذا وغيره من باب الأولى، فصرح بالمقصود لأنه لم يبق في المحسوس من العالم العلوي كوكب أكبر من الشمس ولا أنور، فلما أبطل بذلك جميع مذهبهم أظهر التوجه إلى الإله الحق، وأنه قد انكشف له الصواب بهذا النظر، والمراد هم، ولكن سوقه على هذا الوجه أدعى لقبولهم إياه، فقال مستنتجاً عما دل عليه الدليل العقلي في الملكوت‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي‏}‏ أي أخلصت قصدي غير معرج على شيء أصلاً، فعبر بذلك عن الانقياد التام، لأن من انقاد لشيء أقبل عليه بوجهه، ودل على كماله وتفرده بالكمال مبدعاتُه، وعبر باللام دون إلى لئلا يوهم الحيز، فقال‏:‏ ‏{‏للذي فطر‏}‏ أي لأجل عبودية من شق وأخرج ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ فختم الدليل بما افتتحت به السورة من قوله «الذي خلق السماوات والأرض» وأدل دليل على ما تقدم- أني فسرت الحنف به من أنه الميل مع الدليل سهولة ولطافة على ما هو دأب الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها- قولُه بعد نصب هذا الدليل‏:‏ ‏{‏حنيفاً‏}‏ أي سهلاً هيناً ليناً لطيفاً ميالاً مع الدليل غير كزّ جاف جامد على التقليد دأب الغليظ البليد، وأكد البراءة منهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ أي منكم، ولكنه أظهر الوصف المقتضي للبراءة والتعميم، أي لا أعد في عدادكم بشيء أقاربكم به‏.‏

ولما أبدى هذه الأدلة في إبطال الضلال بالكواكب والشمس التي هي أوضح من الشمس، عطف عليها الإخبار بأنهم لم يرجعوا إليه بل حاجوه، فقال‏:‏ ‏{‏وحاجه قومه‏}‏ بأنهم لا ينفكون عن عبادتها لأنهم وجدوا آباءهم كذلك، وأنه إن لم يرجع عن الكلام فيها أصابته ببعض النوازل، وذلك من أعظم التسلية لهذا النبي العربي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم‏.‏

ولما كان من المعلوم أن محاجتهم- بعد هذه الأدلة الواضحة في غاية من السقوط- سفلت عن الحضيض، نزه المقام عن ذكرها، إشارة إلى أنها بحيث لا يستحق الذكر، وبين جوابه لما فيه من الفوائد الجمة بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي بقول منكراً عليهم موبخاً لهم‏:‏ ‏{‏أتحاجوني‏}‏ وصرح باسم الرب العلم الأعظم في قوله‏:‏ ‏{‏في الله‏}‏ أي شيء مما يختص به المستجمع لصفات الكمال لا سيما التوحيد ‏{‏وقد‏}‏ أي والحال أنه قد ‏{‏هدان‏}‏ أي أرشدني بالدليل القطعي إلى معرفة كل ما يثبت له وينفى عنه، أي لأنه قادر، فبين أنه تعالى قد أحسن إليه، فهو يرجوه لمثل ذلك الإحسان، ويخافه من عواقب العصيان، لأن من رُجي خيره خيف ضيره، ومن كان بيده النفع والضر والهداية والإضلال فهو من وضوح الأمر وظهور الشأن بحيث لا توجه نحوه المحاجة، وأتبعه بيان أن معبوداتهم مسلوب عنها ما يوجه إليه الهمم، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فأنا أرجوه وأخافه لأنه قادر‏:‏ ‏{‏ولا أخاف ما تشركون به‏}‏ ولا أرجوه لهداية ولا إضلال ولا غيرهما لأنه عاجز، فأثبت لله القدرة بالهداية لأنها أشرف، وطوى الإضلال لدلالتها ودلالة ما نفي في جانب الشركاء عليه، وأثبت لآلهتهم العجز بنفي الخوف المستلزم لنفي القدرة على الضر‏.‏ وذلك دال على أن الله تعالى أهل لأن يخاف منه‏.‏ كل ذلك تلويحاً لهم بأن العاقل لا ينبغي له أن يخالف إلاّ من يأمن ضره، فهم في مخالفتهم لله في غاية من الخطر، لا يرتكبها عاقل، والآية من الاحتباك‏.‏

ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبداً في الحال والاستقبال، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصبح الإيمان إلاّ مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليماً لمفاتيح الغيب إليه، وقصرها عليه؛ قال مستثنياً من سبب النفي، وهو أنها لا تقدر على شيء‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء ربي‏}‏ المحسن إليّ في حال الضر كما هو محسن في حال النفع ‏{‏شيئاً‏}‏ أي من تسليطها بأنفسها أو باتباعها، لأنه قادر على ما يريد، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره‏.‏

ولما كان هذا في صورة التعليق، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلاّ من متردد، فيكون موضع إطماع للخصم فيه، علله بما أزال هذا الخيال فقال‏:‏ ‏{‏وسع ربي كل شيء علماً‏}‏ أي فأحاط بكل شيء قدرة، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة، وأثبت له كل مقتض لها، وذلك ثمرة شمول العلم- كما سيأتي برهانه إن شاء الله تعالى في سورة طه، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاماً بأن تلك رتبة لا تصلح إلاّ لله الذي وسع علمه كل شيء، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدمَ الإبلاغ في التذكر بقوله مظهراً تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك‏:‏ ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏ أي يقع منكم تذكر، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر، وأنها مصنوعكم، وتعجب منهم في ظنهم خوفه من معبوداتهم بقوله منكراً‏:‏ ‏{‏وكيف أخاف ما أشركتم‏}‏ أي من دون الله من الأصنام وغيرها مع أنها لا تقدر على شيء ‏{‏ولا‏}‏ أي والحال أنكم أنتم لا ‏{‏تخافون أنكم أشركتم بالله‏}‏ أي المستجمع لصفات العظمة والقدرة على العذاب والنقمة‏.‏

ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء قال‏:‏ ‏{‏ما لم ينزل به‏}‏ أي بإشراكه؛ ولما كان المقام صعباً لأنه أصل الدين، أثبت الجار والمجرور وقدمه فقال‏:‏ ‏{‏عليكم سلطاناً‏}‏ أي حجة تكون مانعة من إنزاله الغضبَ بكم، والحاصل أنه عليه السلام أوقع الأمن في موضعه وهم أوقعوه في موضع الخوف، فعجب منهم لذلك فبان أن هذا وقول شعيب عليه السلام في الأعراف ‏{‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله ربنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏- الآية، وقوله تعالى في الكهف ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 24‏]‏ من مشكاة واحدة؛ ولما كان المحذور المنفي هنا إنما هو خوف الضرر من آلهتهم، وكان حصول الضرر لمخالفها بواسطة أتباعها أو غيرهم من سنن الله الجارية في عباده، اقتصر الخليل عليه السلام على صفة الربوبية المقتضية للرأفة والرحمة والكفاية والحماية، وقد وقع في قصته الأمران‏:‏ إمكانهم من أسباب ضرره بإيقاد النار وإلقائهم له فيها، ورحمته بجعلها عليه برداً وسلاماً؛ ولما كان المحذور في قصة شعيب عليه السلام العود في ملتهم، زاد الإتيان بالاسم الأعظم الجامع لجميع الكمالات المنزه عن جميع النقائص المقتضي لاستحضار الجلال والعظمة والتفرد والكبر المانع من دنو ساحات الكفر- والله الموفق‏.‏

ولما بان كالشمس بما أقام من الدليل أنه أحق بالأمن منهم، قال مسبباً عما مضى تقريراً لهم‏:‏ ‏{‏فأيّ الفريقين‏}‏ أي حزب الله وحزب ما أشركتم به، ولم يقل‏:‏ فأيّنا، تعميماً للمعنى ‏{‏أحق بالأمن‏}‏ وألزمهم بالجواب حتماً بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ أي إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه؛ ثم وصل بذلك دلالة على أنه لا علم لهم أصلاً ليخبروا عما سئلوا عنه قولَه مستأنفاً‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الفعل ‏{‏ولم‏}‏ أي وصدقوا دعواهم بأنهم لم ‏{‏يلبسوا إيمانهم‏}‏ أي يخالطوه ويشوبوه ‏{‏بظلم‏}‏‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ أحق بالأمن، عدل عنه إلى قوله مشيراً إليهم بأداة البعد تنبيهاً على علو رتبتهم‏:‏ ‏{‏أولئك لهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الأمن‏}‏ أي لما تقدم من وصفهم ‏{‏وهم مهتدون‏}‏ أي وأنتم ضالون، فأنتم هالكون لإشرافكم على المهالك «وتفسيرُ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لهذا الظلم المطلق في قوله تعالى ‏{‏بظلم‏}‏ بالشرك» الذي هو ظلم موصوف بالعظم في قوله تعالى ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ تنبيه للصحابة رضوان الله عليهم على أن هذا التنوين للتعظيم، ولأنهم أهل اللسان المطبوعون فيه صفوا بذلك واطمأنوا إليه، ولا شك أن السياق كله في التنفير عن الشرك، وأنه دال على الحث على التبريء عن قليل الشرك وكثيره، فآل الأمر إلى أن المراد‏:‏ ولم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك، فالتنوين حينئذٍ للتحقير كما هو للتعظيم، فهو من استعمال الشيء في حقيقته ومجازه أو في معنيه المشترك فيهما لفظه معاً- والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

ولما كان إبراهيم عليه السلام قد انتصب لإظهار حجة الله في التوحيد والذب عنها، وكان التقدير تنبيهاً للسامع على حسن ما مضى ندباً لتدبره‏:‏ هذه مقاولة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، عطف عليه قوله معدداً وجوه نعمه عليه وإحسانه إليه، دالاً على إثبات النبوة بعد إثبات الوحدانية‏:‏ ‏{‏وتلك‏}‏ أي وهذه الحجة العظيمة الشأن التي تلوناها عليكم، وهي ما حاج إبراهيم عليه السلام به قومه، وعظمه بتعظيمها فقال‏:‏ ‏{‏حجتنا‏}‏ أي التي يحق لها بما فيها من الدلالة أن تضاف إلينا، لأنها من أشرف النعم وأجل العطايا ‏{‏آتيناها‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إبراهيم‏}‏ وأوقفناه على حقيقتها وبصرناه بها، ونبه على ارتفاع شأنها بأداة الاستعلاء مضمناً لآتينا وأقمنا، فقال‏:‏ ‏{‏على قومه‏}‏ أي مستعلياً عليهم غالباً لهم قائمة عليهم الحجة التي نصبها، ثم زاد في الإعلام بفضله بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏نرفع‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏درجات من نشاء‏}‏ بما لنا من القدرة على ذلك كما رفعنا درجة إبراهيم عليه السلام على جميع أهل ذلك العصر‏.‏

ولما كانت محاجته لهم على قانون الحكمة بالعالم العلوي الذي نسبوا الخلق والتدبير بالنور والظلمة إليه، وكان في ختام محاجته لهم أن الجاري على قانون الحكمة أن الملك الحق لا يهين جنده فلا خوف عليهم، وكان قبل ذلك في الاستدلال على البعث الذي هو محط الحكمة؛ كان الأنسب أن يقدم في ختم الآية وصف الحكمة فقال‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي خاصاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة باسم الإحسان تنبيهاً على أن حَجبَه الدليل عمن يشاء لِحِكَم أرادها سبحانه، ففيه تسلية له صلى الله عليه وسلم ‏{‏حكيم‏}‏ أي فلا يفعل بحزبه إلاّ ما ظنه به خليله صلى الله عليه وسلم مما يقر أعينهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما ‏{‏عليم‏}‏ فلا يلتبس عليه أحد من غيرهم، فيفعل به ما يحل بالحكمة‏.‏

ولما أشار إلى رفعته بأنه بصّره بالحجة حتى كان على بصيرة من أمره، وأنه علا على المخالفين برفع الدرجات، أتبع ذلك ما دل عليها وعلى حكمته بعلمه بالعواقب، فقال معلماً بأنه جعله عزيزاً في الدنيا لأن أشرف الناس الأنبياء والرسل، وهم من نسله وذريته، ورفع ذكره أبداً لأجل قيامه بالذب عن توحيده‏:‏ ‏{‏ووهبنا له‏}‏ أي لخليلنا عليه السلام بما لنا من العظمة ‏{‏إسحاق‏}‏ ولداً له على الكبر حيث لا يولد لمثله ولا لمثل زوجته ‏{‏ويعقوب‏}‏ أي ولد ولد، وابتدأ سبحانه بهما لأن السياق للامتنان على الخليل عليه السلام، وهو أشد سروراً بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر الأنبياء الداعين إلى الله من نسله ومن خواصه، وهو الموجب الأعظم للبداءة أن أبناءه طهروا الأرض المقدسة التي هي مهاجر إبراهيم عليه السلام ومختاره للسكنى بنفسه ونسله، بل مختار الله له ولهم بعده بمدد طهورها من الشرك وعبادة الأوثان، ودعوا إلى الله ونوروا الأرض بعبادته‏.‏

ولما كانت النعمة لا تتم إلاّ بالهداية، قال مستأنفاً مقدماً للمفعول ليشمل الكلام إياهما‏:‏ ‏{‏كلاًّ‏}‏ أي منهما ومن أبيهما ‏{‏هدينا‏}‏ ثم أتبع ذلك المهتدين قديماً وحديثاً تأكيداً لأن هذا المذهب لم يزل خلص العباد دعاة إليه في قديم الزمان وجديده، فكأنه يقول‏:‏ إن كنتم تلزمون دينكم لأنه عندكم حق، فقد تبين لكم بطلانه، وأن الحق إنما هو التوحيد، وإن كنتم تلزمونه لِقِدَمِه فهذا الدين- الذي- دعاكم إليه رسولي مع وضوح الدلالة على حقيته- هو القديم الذي دعاكم إليه نوح ومن تلاه من خلص ذريته إلى إبراهيم أبيكم الأعظم ومن بعده من خلص ذريته إلى عيسى، ثم إلى هذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم وبشارة عيسى- على الكل أبلغ الصلاة وأتم التسليم، فهو أحق بالاتباع من جهة الحقية والأقدمية، وإن كنتم تلزمونه لمجرد اتباع الآباء فليس في أبائكم مثل إبراهيم عليه السلام، وقد تلوت عليكم في كلامي الذي أقمت الدليل القطعي بعجزكم عنه على صحة نسبته إلى ما حاج به أباه وقومه في إبطال الأوثان التي أضلتكم، فهو أولى آبائكم أن تعتدوا به- والله الموفق‏.‏

ولما كان ربما وقع في وهم أن هداية كل من إسحاق وابنه بتربية أبيه، ذكر العاشر من آباء الخليل وهو نوح عليهما السلام لدفع ذلك، ولأن السياق لإنكار الأوثان، وهو أول من نهى عن عبادتها، وهو أجلّ آباء الخليل عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏ونوحاً هدينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة من بين ذلك الجيل الأعوج‏.‏

ولما كانت لم تتجاوز منه، وكان زمنه بعض الزمن المتقدم، أثبت الجار وقطعه عن الإضافة لتراخي زمانهم كثيراً عن زمانه فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي ولم تكن هدايته إلاّ بنا في زمان كان أهله من شدة الضلال ولزوم الظلم في مثل استقبال الليل، كلما امتد احلولك ظلامه واشتد، وطالما دعاهم إلى الله وربّاهم فلم يرجع منهم كثيراً أحد حتى لقد خالفه زوجه وبعض ولده، ولمثل ذلك فصل بين إسماعيل وأبيه ويوسف وأبيه عليهم السلام إشارة إلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة، وأنه ما حفظ كلاًّ منهما على سنن الهدى طول المدى إلاّ الله؛ ثم ابتدأ المذكورين بعدُ بمن بنى على يده ويد ابنه مسجداً هو بعد المسجد الذي بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام فقال‏:‏ ‏{‏ومن ذريته‏}‏‏.‏

ولما كان السياق كله لمدح الخليل، وكان المذكورون- إلا لوطاً- من نسله، وكان التغليب مستعملاً شائعاً في لسان العرب، لا سيما ولوط ابن أخيه ومثل ولده؛ حكم بأن الضمير لإبراهيم عليه السلام، وقولُ من قال‏:‏ إن يونس عليه السلام ليس من نسله، غير صحيح، بل هو من بني إسرائيل، وهو أحد من ذكر في سفر الأنبياء، وسيأتي خبره من السفر المذكور في سورة ‏{‏والصافات‏}‏ إن شاء الله تعالى، وقد صرح أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في قصص الأنبياء أنه من ذرية إبراهيم، واقتضى كلامه أنه من بني إسرائيل، كما اقتضى ذلك كلام البغوي في سورة الأنبياء عليهم السلام، وأما أيوب فروى؛ من نسل عيص بن إسحاق عليهم السلام ‏{‏داود‏}‏ أي هديناه ‏{‏وسليمان‏}‏ أي اللذين بنيا بيت المقدس بأمر الله‏:‏ داود بخطه وتأسيسه، وسليمان بإكماله وتشييده‏.‏

وما كان مع ذلك ملكين، تلاهما بمن شابههما في الملك أو الحكم على الملوك فقال‏:‏ ‏{‏وأيوب‏}‏ وقدمه لمناسبة ما بينه وبين سليمان في أن كلاًّ منهما ابتلى بأخذ كل ما في يده ثم ردّ الله إليه ‏{‏ويوسف‏}‏ وكل من هؤلاء الأربعة ابتلى فصبر، واغتنى فشكر، وأيوب إن لم يكن ملكاً فقد كانت ثروته غير مقصرة عن ثروة الملوك، على أن بعض الطلبة أخبرني عن تفسير الهكاري- فيما أظن- أنه صرح بأنه ملك، وأيضاً فالاثنان الأولان كانا سبب إصلاح بني إسرائيل بعد الفساد واستنقاذهم من ذل الفلسطين، والاثنان الباقيان كل منهما ابتلى بفراق أهله ثم ردوا عليه‏:‏ أيوب بعد أن ماتوا، ويوسف قبل الموت، وأيضاً فداود عليه السلام شارك إبراهيم عليه السلام في أنه كان سبب سلامته من ملك زمانه الاختفاءُ في غار، وذلك أن نمرود بن الكنعان كان ادعى الإلهية وأطمع فيها، وقال له منجموه‏:‏ يولد في بلدك هذا العام غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك على يده، فأمر بذبح كل غلام في ناحيته في تلك السنة، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وحملت أم إبراهيم عليه السلام به في تلك السنة، فلما وجدت الطلق خرجت ليلاً إلى غار قريب منها فولدت فيه إبراهيم وأصلحت من شأنه، ثم سدت فم الغار ورجعت، ثم كانت تطالعه فتجده يمتص إبهامه، وكان يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة؛ وأما داود عليه السلام فإنه لما قتل جالوت وزوَّجَه طالوتُ ابنته، وناصفه ملكه- على ما كان شرط لمن قتل جالوت- مال إليه الناس وأحبوه، فحسده فأراد قتله، فطلبه فهرب منه، فدخل غاراً فنسجت عليه العنكبوت، فقال طالوت‏:‏ لو دخل هنا لخرق بناء العنكبوت، فأنجاه الله منه؛ وتلاه بسليمان لأنه مع كونه من أهل الملك والبلاء شارك إبراهيم عليهما السلام في إبطال عبادة الشمس في قصة بلقيس رضي الله عنها؛ وقصة يوسف عليه السلام في إبطال عبادة الأوثان شهيرة في قوله تعالى

‏{‏يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ولما كان يوسف عليه السلام ممن أعلى الله كلمته على كلمة ملك مصر وأعز ملكها وأهلها وأحياهم به، أتبعه من أعلى الله كلمتهما على كلمة ملك مصر وأهلها وأهلكهم بهما، فكأن بعض قصصهم وفاق، وبعضها تقابل وطباق، فقال‏:‏ ‏{‏وموسى وهارون‏}‏ ولما كان التقدير‏:‏ هديناهم جزاء لإحسانهم باهتدائهم في أنفسهم ودعائهم لغيرهم إلى الهدى، لم يشغل أحداً منهم منحةُ السراء ولا محنة الضراء، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ما جزيناهم ‏{‏نجزي المحسنين *‏}‏ أي كلهم، ففي ذلك إشارة إلى علو مقامهم من هذه الجهة، وهي أنهم من أهل السراء المطفئة والضراء المسنية، ومع ذلك فقد أحسنوا ولم يفتروا ولم ينوا‏.‏

ولما كان المذكوران قبله ممن سلطهما على الملوك، أتبعهما من سلط الملوك عليهما بالقتل فقال‏:‏ ‏{‏وزكريا ويحيى‏}‏ ثم أتبعهما من عاندهما الملوك ولم يسلطوا عليهما وأدام الله سبحانه حياتهما إلى أن يريد سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏وعيسى وإلياس‏}‏ ولما كان هؤلاء الأربعة من الصابرين، قال مادحاً لهم على وجه يعم من قبلهم‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي من المذكورين ‏{‏من الصالحين *‏}‏ ثم أتبعهم من لم يكن بينهما وبين الملوك أمر، وهدى بهما من كان بين ظهرانيه فقال‏:‏ ‏{‏وإسماعيل واليسع‏}‏ هذا إن كان اليسع هو ابن أخطوب ابن العجوز خليفة إلياس، كما ذكر البغوي في سورة الصافات أن الله تعالى أرسل إلى إلياس- وهو من سبط لاوي من نسل هارون عليه السلام- فرساً من نار فركبه فرفعه الله وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وسلط الله على آجب- يعني الملك الذي سلط على إلياس- عدواً فقتله ونَبأ الله اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل، وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وإن كان اليسع هو يوشع بن نون- كما قال زيد بن أسلم- فالمناسبة بينه وبين إسماعيل عليهما السلام أن كلاًّ منهما كان صادق الوعد، لأن يوشع أحد النقيبين اللذين وفيا لموسى عليه السلام حين بعثهم يجسون بلاد بيت المقدس كما أشير إليه في قوله تعالى ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسراءيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏ وقوله ‏{‏وقال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏ وأيضاً فكل منهما كان سبب عمارة بلد الله الأعظم بالتوحيد، فإسماعيل سبب عمارة مكة المشرفة، ويوشع سبب عمارة البلدة المقدسة- كما سيأتي في سورة يونس إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما كان إسماعيل واليسع ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب، أتبعهما مَن هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله فقال‏:‏ ‏{‏ويونس‏}‏ أي هديناه؛ ولما انقضت ذرية إبراهيم عليه السلام، ختم بابن أخيه الذي ضل قومه فهلكوا بغتة، فبين قصتي هذين الآخرين طباق من جهة الهلاك والنجاة، ووفاق من حيث إن كلاًّ منهما أرسل إلى غير قومه فقال‏:‏ ‏{‏ولوطاً‏}‏ ثم وصفهم بما يعم من قبلهم فقال‏:‏ ‏{‏وكلاًّ‏}‏ أي ممن ذكرنا ‏{‏فضلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة بتمام العلم وشمول القدرة ‏{‏على العالمين *‏}‏ فكل هؤلاء الأنبياء ممن هداه الله بهداه وجاهد في الله حق جهاده، وبدأهم تعالى بإبراهيم عليه السلام وختمهم بابن أخيه لوط عليه السلام على هذه المناسبة الحسنة؛ وقيل‏:‏ إن الله تعالى أهلك قوم إبراهيم- نمرود وجنوده- بعد هجرته، فإن صح ذلك تمت المناسبة في هلاك كل من قومه وقوم ابن أخيه لوط بعد خروج نبيهم عنهم، فيكون بينهما وفاق كما كان بين قصته وقصة يونس عليه السلام طباق‏.‏

ومن لطائف ترتيبهم هكذا أيضاً أن إسماعيل عليه السلام يوازي نوحاً عليه السلام، فإنه رابع في العدّ لهذا العقد إذا عددته من آخره، كما أن نوحاً عليه السلام رابعه إذا عددته من أوله، والمناسبة بينهما أن نوحاً عليه السلام نشر الله منه الآدميين حتى كان منهم إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله أباً للأنبياء والمرسلين، وإسماعيل عليه السلام نشر الله منه العرب الذين هم خلاصة الخلق حتى كان منهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين، فهذا كان بداية وهذا كان نهاية، وأن المذكورين قبل ذرية إبراهيم عليه السلام وبعدها- وهما نوح ولوط عليهما السلام- أهلك الله قوم كل منهما عامة، وغيب هؤلاء في جامد الأرض كما أغرق أولئك في مانع الماء، وأشقى بكل منهما زوجته، بياناً لأن الرسل كما يكونون لناس رحمة يكونون على قوم نقمة، وأنه لا نجاة بهم ولا انتفاع إلا بحسن الاتباع، وأن ابن عمران اشترك مع إبراهيم عليهم السلام في أن كلاًّ من ملكي زمانهم أمر بقتل الغلمان خوفاً ممن يغير دينه ويسلبه ملكه، وكما أن الله تعالى أنجى إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوطاً عليه السلام من ملك زمانهما المدعي للإلهية فكذلك أنجى موسى وأخاه هارون عليهما السلام من ملك زمانهما المدعي للآلهة، وأنجى ذرية إبراهيم بهما، فإذا جعلت إبراهيم وابن أخيه لوطاً- لكونه تابعاً له- واحداً، وموسى وأخاه هارون واحداً لمثل ذلك، ونظمت أسماء جميع هذه الأنبياء في سلك النقي‏:‏ لوط مع إبراهيم كموسى مع هارون، وكان الأربعة واسطة عقدة، فبين إبراهيم وموسى حينئذ سبعة كما أن بين هارون ولوط سبعة، وإذا ضممت إليهم المقصود بالذات المخاطب بهذه الآيات المأمور بقوله ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ كان منزله في السلك بين ابن عمه لوط وأبيه إبراهيم، ويكون من بين يديه تسعة، ومن خلفه تسعة، فمن إبراهيم إلى موسى تسعة، ومن لوط إلى هارون كذلك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واسط العقد ومكمل العقد، فإنه العاشر من كل جانب، فبه تكمل الهدى وإيجاب الردى، وذلك طبق قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏

«مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون‏:‏ هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وللبخاري نحوه عن جابر، هذا مع اقترانه بأقرب أولي العزم رتبة ونسباً صاحب القصة إبراهيم عليه السلام، وإن جعلت موسى وهارون عليهما السلام كشيء واحد كانا واسطة من الجانب الآخر، فإن عددت من جهة إبراهيم عليه السلام كان بينه وبينهما ثمانية، وإن عددت من جهة لوط عليه السلام كان كذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 91‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

ولما نص سبحانه على هؤلاء، وختم بتفضيل كل على العالمين، أتبعه على سبيل الإجمال أن غيرهم كان مهدياً، وأن فضل هؤلاء علة النص لهم على أسمائهم، فقال ترغيباً في سلوك هذا السبيل بكثرة سالكيه وحثاً على منافستهم في حسن الاستقامة عليه والسلوك فيه‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي وهدينا أو وفضلنا من ‏{‏آبائهم‏}‏ أي أصولهم ‏{‏وذرياتهم‏}‏ أي من فروعهم من الرجال والنساء ‏{‏وإخوانهم‏}‏ أي فروع أصولهم، وعطف على العامل المقدر قوله‏:‏ ‏{‏واجتبيناهم‏}‏ أي واخترناهم، ثم عطف عليه بيان ما هدوا إليه حثاً لنا على شكره على ما زادنا من فضله فقال‏:‏ ‏{‏وهديناهم‏}‏ أي بما تقدم من الهداية ‏{‏إلى صراط مستقيم *‏}‏ وأما الصراط المستقيم فخصصناكم به وأقمناكم عليه، فاعرفوا نعمتنا عليكم واذكروا تفضيلنا لكم‏.‏

ولما كان ربما أوهم تنكيرُه نقصاً فيه، قال مستأنفاً بياناً لكماله وتعظيماً لفضله وإفضاله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الهدى العظيم الرتبة ‏{‏هدى الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏يهدي‏}‏ أي يخلق الهداية ‏{‏به‏}‏ أي بواسطة الإقامة عليه ‏{‏من يشاء من عباده‏}‏ أي سواء كان له أب يعمله أو كان له من يحمله على الضلال أولا؛ ولما بين فضل الهدى ونص على رؤوس أهله، تهدد من تركه كائناً من كان، فقال مظهراً لعز الإلهية بالغنى المطلق منزهاً نفسه عما لوحظ فيه غيره ولو بأدنى لحظ‏:‏ ‏{‏ولو أشركوا‏}‏ أي هؤلاء الذين ذكرنا من مدحهم ما سمعتَ وبينّا من اختصاصنا لهم ما علمت- شيئاً من شرك وقد أعاذهم الله من ذلك، وأقام بهم معوج المسالك، وأنار بهم ظلام الأرض بطولها والعرض ‏{‏لحبط عنهم‏}‏ أي فسد وسقط ‏{‏ما كانوا يعملون *‏}‏ أي وإن كان في غاية الإتقان بقوانين العلم، وزاد في الترهيب من التواني في السير والزيغ عن سوء القصد بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة الذين قدمنا ذكرهم وأخبرنا أنهم لو أشركوا سقطت أعمالهم ‏{‏الذين آتيناهم‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏الكتاب‏}‏ أي الجامع لكل خير، فمن ملك ما فيه من العلوم والمعارف حكم على البواطن، وذلك لأن الناس يحبونه فينقادون له ببواطنهم ‏{‏والحكم‏}‏ أي العمل المتقن بالعلم، ومنه نفوذ الكلمة على الظواهر بالسلطنة وإن كرهت البواطن ‏{‏والنبوة‏}‏ أي العلم المزين بالحكم وهي وضع كل شيء في أحق مواضعه، فهي جامعة للمرتبتين الماضيتين، فلذلك كان الأنبياء يحكمون على البواطن بما عندهم من العلم، وعلى الظواهر بما يظهر من المعجزات؛ ثم سبب عن تعظيمها بذلك تعظيمَها بأنها لا تبور، فقال تسلية عن المصيبة بطعن الطاعنين فيها وإعراض الجاهلين عنها وترجية عندما يوجب اليأس من نفرة اكثر المدعوين‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها‏}‏ أي هذه الأشياء العظيمة ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم، وقد حبوناهم بها على أتم وجه وأكمله وأعلاه وأجمله، وأنت تدعوهم إلى أن يكونوا سعداء بما اشتملت عليه من الهدى وهم عنه معرضون، ولعل الإشارة على هذا الوجه لتحقيرهم ‏{‏فقد وكلنا‏}‏ أي لما لنا من العظمة في الماضي والحال والاستقبال ‏{‏بها قوماً‏}‏ أي ذوي قوة على القيام بالأمور بالإيمان بها والحفظ لحقوقها ‏{‏ليسوا‏}‏ وقدم الجار اهتماماً فقال‏:‏ ‏{‏بها بكافرين *‏}‏ أي بساترين الشيء مما ظهر من شموس أدلتها، وهم الأنبياء ومن تبعهم، وقد صدق الله- ومن أصدق من الله حديثاً‏!‏ فقد جاء في هذه الأمة من العلماء الأخيار والراسخين الأحبار من لا يحصيهم إلا الله‏.‏

ولما كان المراد بسوقهم هكذا- والله أعلم- أن كلاًّ منهم بادر بعد الهداية إلى الدعاء إلى الله والغيرة على جلاله من الإشراك، لم يُشْغِل أحداً منهم عن ذلك سراء ولا ضراء بملك ولا غيره من ملك أو غيره بل لازموا الهدى الدعاء إليه على كل حال؛ قال مستأنفاً لتكرار أمداحهم بما يحمل على التحلي بأوصافهم، مؤكداً لإثبات الرسالة‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو المراتب ‏{‏الذين هدى الله‏}‏ أي الملك الحائز لرتب الكمال، الهدى الكامل، ولذلك سبب عن مدحهم قوله‏:‏ ‏{‏فبهداهم‏}‏ أي خاصة في واجبات الإرسال وغيرها ‏{‏اقتده‏}‏ وأشار بهاء السكت التي هي أمارة الوقوف- وهي ثابتة في جميع المصاحف- إلى أن الاقتداء بهم كان غير محتاج إلى شيء؛ ثم فسر الهدى بمعظم أسبابه فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لمن تدعوهم كما كانوا يقولون مما ينفي التهمة ويمحص النصيحة فيوجب الاتباع إلا من شقى ‏{‏لا أسئلكم‏}‏ أي أيها المدعوون ‏{‏عليه‏}‏ أي على الدعاء ‏{‏أجراً‏}‏ فإن الدواعي تتوفر بسبب ذلك على الإقبال إلى الداعي والاستجابة للمرشد؛ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هو‏}‏ أي هذا الدعاء الذي أدعوكم به ‏{‏إلا ذكرى‏}‏ أي تذكير بليغ من كل ما يحتاج إليه في المعاش والمعاد ‏{‏للعالمين *‏}‏ أي الجن والإنس والملائكة دائماً، لا ينقضي دعاؤه ولا ينقطع نداؤه، وفي التعبير بالاقتداء إيماء إلى تبكيت كفار العرب حيث اقتدوا بمن لا يصلح للقدوة من آبائهم، وتركوا من يجب الاقتداء به‏.‏ ولما حصر الدعاء في الذكرى، وكان ذلك نفعاً لهم ورفقاً بهم، لا تزيد طاعتهم في ملك الله شيئاً ولا ينقص إعراضُهم من عظمته شيئاً، لأن كل ذلك بإرادته؛ بني حالاً منهم، فقال تأكيداً لأمر الرسالة بالإنكار على من جحدها وإلزاماً لهم بما هم معترفون به، أما أهل الكتاب فعلماً قطعياً، وأما العرب فتقليداً لهم ولأنهم سلموا لهم العلمَ وجعلوهم محط سؤالهم عن محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي فقلنا ذلك لهم خاصة والحال أنهم ما ‏{‏قدروا‏}‏ أي عظموا ‏{‏الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏حق قدره‏}‏ أي تعظيمه في جحدهم لذكراهم وصدهم عن بشراهم ومقابلتهم للشكر عليه بالكفر له؛ قال الواحدي‏:‏ يقال قدر الشيء- إذا سبره وحزره وأراد أن يعلم مقداره- يقدره- بالضم- قدراً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«فإن غم عليكم فاقدروا له»، أي فاطلبوا أن تعرفوه- هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن عرف شيئاً‏:‏ هو يقدر قدره، وإذا لم يعرفه بصفاته‏:‏ إنه لا يقدر قدره ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏قالوا‏}‏ أي اليهود، والآية مدنية وقريش في قبولهم لقولهم، ويمكن أن تكون مكية، ويكون قولهم هذا حين أرسلت إليهم قريش تسألهم عنه صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته واحتجاجه عليهم بإرسال موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه ‏{‏ما أنزل الله‏}‏ أي ناسين ما له من صفات الكمال ‏{‏على بشر من شيء‏}‏ لأن من نسب مَلِكاً تام الملك إلى أنه لم يُثبِت أوامره في رعيته بما يرضيه ليفعلوه وما يسخطه ليجتنبوه، فقد نسبه إلى نقص عظيم، فكيف إذا كانت تلك النسبة كذباً‏!‏ وهذا وإن كان ما قاله إلا بعض العالمين بل بعض أهل الكتاب الذين هم بعض العالمين، أسند إلى الكل، لأنهم لم يردوا على قائله ولم يعاجلوه بالأخذ تفظيعاً للشأن وتهويلاً للأمر، وبياناً لأنه يجب على كل من سمع بآية من آيات الله أن يسعى إليها ويتعرف أمرها، فإذا تحققه فمن طعن فيها أخذ على يده بما يصل إليه قدرته، كما أنه كذلك كان يفعل لو كان ذلك ناشئاً عن أبيه أو أحد ممن يكون فخره به من أبناء الدنيا، وفي ذلك أتم إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عماد الأمور كلها، من فرّط فيه هلك وأهلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي أن اليهود قالوا‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى- يعني هذه الآية، فقال مشيراً إلى أن اليهود قائلو ذلك، وملزماً بالاعتراف بالكذب أو المساواة للأميين في التمسك بالهوى دون كتاب، موبخاً لهم ناعياً عليهم سوء جهلهم وعظيم بهتهم وشدة وقاحتهم وعدم حيائهم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء السفهاء الذين تجرؤوا على هذه المقالة غير ناظرين في عاقبتها وما يلزم منها توبيخاً لهم وتوقيفاً على موضع جهلهم ‏{‏من أنزل الكتاب‏}‏ أي الجامع للأحكام والمواعظ وخيري الدنيا والآخرة ‏{‏الذي جاء به موسى‏}‏ أي الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه، حال كون ذلك الكتاب ‏{‏نوراً‏}‏ أي ذا نور يمكن الأخذ به من وضع الشيء في حاقّ موضعه ‏{‏وهدى للناس‏}‏ أي ذا هدى لهم كلهم، أما في ذلك الزمان فبالتقيد به، وأما عند إنزال الإنجيل فبالأخذ بما أرشد إليه من اتباعه، وكذا عند إنزال القرآن، فقد بان أنه هدى في كل زمان تارة بالدعاء إلى ما فيه وتارة بالدعاء إلى غيره؛ ثم بين أنهم اخفوا منه ما هو نص وصريح في الدعاء إلى غيره اتباعاً منهم للهوى ولزوماً للعمى فقال‏:‏ ‏{‏تجعلونه‏}‏ أي أيها اليهود ‏{‏قراطيس‏}‏ اي أوراقاً مفرقة لتتمكنوا بها من إخفاء ما أردتم ‏{‏تبدونها‏}‏ أي تظهرونها للناس ‏{‏وتخفون كثيراً‏}‏ أي منها ما تريدون به تبديل الدين- هذا على قراءة الجماعة بالفوقانية، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيبة هو التفات مؤذن بشدة الغضب مشير إلى أن ما قالوه حقيق بأن يستحيى من ذكره فكيف بفعله‏!‏ ثم التفت إليهم للزيادة في تبكيتهم إعلاماً بأنهم متساوون لبقية الإنسان في أصل الفطرة، بل العرب أزكى منهم وأصح أفهاماً، فلولا ما أتاهم به موسى عليه السلام ما فاقوهم بفهم، ولا زادوا عليهم في علم، فقال‏:‏ ‏{‏وعلمتم‏}‏ أي أيها اليهود بالكتاب الذي أنزل على موسى ‏{‏ما لم تعلموا أنتم‏}‏ أي أيها اليهود من أهل هذا الزمان ‏{‏ولا آباؤكم‏}‏ أي الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم‏.‏

ولما كانوا قد وصلوا في هذه المقالة إلى حد من الجهل عظيم، قال مشيراً إلى عنادهم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي أنت في الجواب عن هذا السؤال غير منتظر لجوابهم فإنهم أجلف الناس وأعتاهم ‏{‏الله‏}‏ أي الذي أنزل ذلك الكتاب ‏{‏ثم‏}‏ بعد أن تقول ذلك لا تسمع لهم شيئاً بل ‏{‏ذرهم في خوضهم‏}‏ أي قولهم وفعلهم المثبتين على الجهل المبنيين على أنهم في ظلام الضلال كالخائض في الماء يعملون ما لا يعلمون ‏{‏يلعبون *‏}‏ أي يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً مع تضييع الزمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

ولما أثبت سبحانه أنه الذي أنزل التوراة والإنجيل تكميلاً لإثبات الرسالة بدليل علم اليهود دون من لا كتاب لهم، عطف على ذلك قوله تأكيداً لإثباتها وتقريراً‏:‏ ‏{‏وهذا‏}‏ أي القرآن الذي هو حاضر الآن في جميع الأذهان ‏{‏كتاب‏}‏ أي جامع لخيري الدارين، وكان السياق لأن يقال‏:‏ أنزل الله، ولكنه أتى بنون العظمة، لأنها أدل على تعظيمه فقال‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي وليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم من نفسه، وإنما هو بإنزالنا إياه إليه وإرسالنا له به ‏{‏مبارك‏}‏ أي كثير الخير ثابت الأمر، لا يقدر أحد من الخلق على إنكاره لإعجازه، لتعلم أهل الكتاب خصوصاً حقيقته بتصديقه لكتابهم لأنه ‏{‏مصدق الذي بين يديه‏}‏ أي كله من كتبهم وغيرها، فيكون أجدر لإيمانهم به، وتعلم جميع أهل الأرض عموماً ذلك بذلك وبإعجازه ‏{‏ولتنذر‏}‏ أي به ‏{‏أم القرى‏}‏ أي مكة لأنها أعظم المدن بما لها من الفضائل ‏{‏ومن حولها‏}‏ ممن لا يؤمن بالآخرة فهو لا يؤمن به من أهل الأرض كلها من جميع البلدان والقرى، لأنها أم الكل، وهم في ضلالتهم مفرطون ‏{‏والذين يؤمنون بالآخرة‏}‏ أي فيهم قابلية الإيمان بها على ما هي عليه، من أهل أم القرى ومن حولها بكل خير ينشرون ‏{‏يؤمنون به‏}‏ أي بالكتاب بالفعل لأن الإيمان بها داع إلى كل خير بالخوف والرجاء، والكفر بها حامل على كل بشر‏.‏

ولما تكرر وصف المنافقين بالتكاسل عن الصلاة جعل المحافظة عليها علماً على الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏وهم على صلاتهم يحافظون *‏}‏ أي يحفظونها غاية الحفظ، فالآية من عجيب فن الاحتباك‏:‏ ذكر الإندار والأم أولاً دالاً على حذفهما ثانياً، وإثبات الإيمان والصلاة ثانياً دليل على نفيهما أولاً‏.‏

ولما كان في قولهم «ما أنزل الله على بشر من شيء» صريح الكذب وتضمن تكذيبه- وحاشاه صلى الله عليه وسلم ‏!‏ أما من اليهود فبالفعل، وأما من قريش فبالرضى، وكان بعض الكفرة قد ادعى الإيحاء إلى نفسه إرادة للطعن في القرآن؛ قال تعالى مهولاً لأمر الكذب لا سيما عليه لا سيما في أمر الوحي، عاطفاً على مقول «قل من أنزل» مبطلاً للتنبؤ بعد تصحيح أمر الرسالة وإثباتها إثباتاً لا مرية فيه، فكانت براهين إثباتها أدلة على إبطال التنبؤ وكذب مدعيه‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى‏}‏ أي بالفعل كاليهود والرضى كقريش ‏{‏على الله كذباً‏}‏ أي أيّ كذب كان، فضلاً عن إنكار الإنزال على البشر ‏{‏أو قال أوحي إليّ ولم‏}‏ أي والحال أنه لم ‏{‏يوح إليه شيء‏}‏ فهذا تهديد على سبيل الإجمال كعادة القرآن المجيد، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما، ثم رأيت في كتاب غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود للسموأل بن يحيى المغربي الذي كان من أجل علمائهم في حدود سنة ستين وخمسمائة، ثم هداه الله للإسلام، وكانت له يد طولى في الحساب والهندسة والطب وغير ذلك من العلوم، فأظهر بعد إسلامه فضائحَهم أن الربانيين منهم زعموا أن الله كان يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات، ثم قال بعد أن قسمهم إلى قرّائين وربانيين‏:‏ إن الربانيين أكثرهم عدداً، وقال‏:‏ وهم الذين يزعمون أن الله كان يخاطبهم في كل مسالة بالصواب، قال‏:‏ وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم ‏{‏ومن قال سأنزل‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏مثل ما أنزل الله‏}‏ كالنضر بن الحارث ونحوه‏.‏

ولما كان الجواب قطعاُ في كل منصف‏:‏ لا أحد أظلم منه، بل هم أظلم الظالمين، كان كأنه قيل‏:‏ فلو رأيتهم وقد حاق بهم جزاء هذا الظلم كرد وجوههم مسودة وهم يسحبون في السلاسل على وجوههم، وجهنم تكاد تتميز عليهم غيظاً، وهم قد هدّهم الندم والحسرة، وقطع بهم الأسف والحيرة لرأيت أمراً يهول منظره، فكيف يكون مذاقه ومخبره‏!‏ فعطف عليه ما هو أقرب منه، فقال كالمفصل لإجمال ذلك التهديد مبرزاً بدل ضميرهم الوصف الذي أداهم إلى ذلك‏:‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏ أي يكون منك رؤية فيما هو دون ذلك ‏{‏إذ الظالمون‏}‏ أي لأجل مطلق الظلم فكيف بما ذكر منه‏!‏ واللام للجنس الداخل فيه هؤلاء دخولاً أولياً ‏{‏في غمرات الموت‏}‏ أي شدائده التي قد غمرتهم كما يغمر البحر الخضم من يغرق فيه، فهو يرفعه ويخفضه ويبتلعه ويلفظه، لا بد له منه ‏{‏والملائكة‏}‏ أي الذين طلبوا جهلاً منهم إنزال بعضهم على وجه الظهور لهم، وأخبرناهم أنهم لا ينزلون إلا لفصل الأمور وإنجاز المقدور ‏{‏باسطوا أيديهم‏}‏ أي إليهم بالمكروه لنزع أرواحهم وسلّها وافية من أشباحهم كما يسل السفود المشعب من الحديد من الصوف المشتبك المبلول، لا يعسر عليهم تمييزها من الجسد، ولا يخفى عليهم شيء منها في شيء منه، قائلين ترويعاً لهم وتصويراً للعنف والشدة في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط الملازم ‏{‏أخرجوا أنفسكم‏}‏ فكأنهم قالوا‏:‏ لماذا يا رسل ربنا‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ أي هذه الساعة، وكأنهم عبروا به لتصوير طول العذاب ‏{‏تجزون عذاب الهون‏}‏ أي العذاب الجامع بين الإيلام العظيم والهوان الشديد والخزي المديد بالنزع وسكرات الموت وما بعده في البرزخ- إلى ما لا نهاية له ‏{‏بما كنتم تقولون‏}‏ أي تجددون القول دائماً ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏غير الحق‏}‏ أي غير القول المتمكن غاية التمكن في درجات الثبات، ولو قال بدله‏:‏ باطلاً، لم يؤد هذا المعنى، ولو قال‏:‏ الباطل، لقصر عن المعنى أكثر، وقد مضى في المائدة ما ينفع هنا، وإذا نظرت إلى أن السياق لأصول الدين ازداد المراد وضوحاً ‏{‏وكنتم‏}‏ أي وبما كنتم ‏{‏عن آياته تستكبرون *‏}‏ أي تطلبون الكبر للمجاوزة عنها، ومن استكبر عن آية واحدة كان مستكبراً عن الكل، أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً فظيعاً وحالاً هائلاً شنيعاً، وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 96‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

ولما كانوا ينكرون أن يحس الميت شيئاً بعد الموت أو يفهم كلاماً، وكان التقدير كما دل عليه السياق‏:‏ فتتوفاهم الملائكة، لا يقدر أحد على منعهم، فيقول لهم‏:‏ قد رأيتم ملائكتنا الذين أخبرناكم أول السورة أنهم إذا أبصروا كان القضاء الفصل والأمر البت الحتم الذي ليس فيه مهل، عطف عليه قوله مشيراً إلى ما كان سبب استكبارهم من الاجتماع على الضلال والتقوى بالأموال‏:‏ ‏{‏ولقد جئتمونا‏}‏ أي لما لنا من العظمة بالموت الذي هو دال على شمول علمنا وتمام قدرتنا قطعاً، ودل على تمام العظمة وأن المراد مجيئهم بالموت قوله‏:‏ ‏{‏فرادى‏}‏ أي متفرقين، ليس أحد منكم مع أحد، ومنفردين على كل شيء صدكم عن اتباع رسلنا ‏{‏كما خلقناكم‏}‏ أي بتلك العَظمة التي أمتناكم بها بعينها ‏{‏أول مرة‏}‏ في الانفراد والضعف والفقر، فأين جمعكم الذي كنتم به تستكبرون‏!‏ ‏{‏وتركتم ما خولناكم‏}‏ أي ملكناكم من المال ومكناكم من إصلاحه نعمة عليكم لتتوصلوا به إلى رضانا، فظننتم أنه لكم بالأصالة، وأعرضتم عنا وبدلتم ما دل عليه من عظمتنا بضد ذلك من الاستهانة بأوامرنا ‏{‏وراء ظهوركم‏}‏ فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكبرون‏.‏

ولما كانوا يعدون الأصنام آلهة، ويرجون شفاعتها، إما استهزاء، وإما في الدنيا، وإما في الآخرة- على تقدير التسليم لصحة البعث، قال تهكماً بهم واستهزاء بشأنهم‏:‏ ‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم‏}‏ أي التي كنتم تقولون فيها ما تقولون ‏{‏الذين زعمتم‏}‏ أي كذباً وجراءة وفجوراً ‏{‏أنهم فيكم شركاء‏}‏ أي أن لهم فيكم نصيباً مع الله حتى كنتم تعبدونهم في وقت الرخاء وتدعونه في وقت الشدة، أروناهم لعلهم سترهم عنا ساتر أو حجبنا عنهم حاجب؛ ثم دل على بهتهم في جواب هذا الكلام الهائل المرعب حيرة وعجزاً ودهشاً وذلاً بقوله‏:‏ ‏{‏لقد تقطع‏}‏ أي تقطعاً كثيراً‏.‏

ولما كان ذكر البين في شيء يدل على قربه في الجملة وحضوره ولو في الذهن، لأنه يقال‏:‏ بيني وبين كذا كذا، وكان فلان بيننا، ونحو ذلك مما يدل على الحضور؛ قال منبهاً على زوال ذلك حتى بالمرور بالبال والخطور في الذهن لشدة الاشتغال ‏{‏بينكم‏}‏ فأسند القطع المبالغ فيه إلى البين، وإذا انقطع البين تقطّع ما كان فيه من الأسباب التي كانت تسبب الاتصال، فلم يبق لأحد منهم اتصال بالآخر، لأن ما بينهما صار كالخندق بانقطاع نفس البين، فلا يتأتى معه الوصول، هذا على قراءة الجماعة بالرفع، وهذا المثال معنى قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على الظرفية؛ ولما رجع المعنى إلى تقطع الوصل، بين سبب ذلك، وهو زوال المستند الذي كانوا يستندون إليه فقال‏:‏ ‏{‏وضل عنكم‏}‏ أي ذهب وبطل ‏{‏ما كنتم تزعمون *‏}‏ أي من تلك الأباطيل كلها‏.‏

ولما ثبتت الوحدانية والنبوة والرسالة وتقاريع من تقاريعها، وانتهى الكلام هنا إلى ما تجلى به مقام العظمة، وانكشف له قناع الحكمة وتمثل نفوذ الكلمة، فتهيأ السامع لتأمله، وتفرع فهمه لتدبره؛ قال دالاً عليه مشيراً إليه، معلماً أن ما مضى أنتجه وأظهره لا بد وأبرزه، مذكراً بآياته ‏{‏والذين يؤمنون بالآخرة‏}‏ وبمحاجة إبراهيم عليه السلام، مصرفاً ما مضى أول السورة من دلائل الوحدانية على أوجه أخرى، إعلاماً بأن دلائل الجلال تفوق عدد الرمال، وتنبيهاً على أن القصد بالذات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال، فهو قادر على كل ما يريد ‏{‏فالق الحب‏}‏ أي فاطره وشاقه عن الزروع والنبات، وعبر بذلك لأن الشيء قبل وجوده كان معدوماً، والعقل يتوهم ويتخيل من العدم ظلمة متصلة، فإذا خرج من العدم المحض والفناء الصرف فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم ‏{‏والنوى‏}‏ أي وهو ما يكون داخل الثمار المأكولة كالتمر، ولا يكون مقصوداً لذاته بفلقها عن الأشجار، وفي ذلك حكم وأسرار تدق عن الأفكار، وتدل على كمال الواحد المختار؛ قال الإمام الرازي ما حاصله‏:‏ إن النواة والحبة تكون في الأرض الرطبة مدة، فيظهر الله فيها شقاً في أعلاها وآخر في أسفلها، وتخرج الشجرة من الأعلى فتعلو وتهبط من الأسفل شجرة أخرى في أعماق الأرض، هي العروق، وتلك الحبة أو النواة سبب واصل بين الشجرتين‏:‏ الصاعدة والهابطة، فيشهد الحس والعقل بأن طبع الصاعدة والهابطة متعاكس، وليس ذلك قطعاً بمقتضى الطبع والخاصية، بل بالإيجاد والاختراع والتكوين والإبداع، ولا شك أن العروق الهابطة في غاية اللطافة والرقة بحيث لو دلكت باليد بأدنى قوة صارت كالماء، وهي مع ذلك تقوى على النفوذ في الأرض الصلبة التي لا ينفذ فيها المسلّة والسكين الحادة إلا بإكراه عظيم، فحصول هذا النفوذ لهذه الأجرام اللطيفة لا يكون قطعاً إلا لقوة الفاعل المختار، لا سيما إذا تأملت ظهور شجرة من نواة صغيرة، ثم تجمع الشجرة طبائع مختلفة في قشرها ثم فيما تحته من جرم الخشبة، وفي وسط تدوير الخشبة جرم ضعيف كالعهن المنفوش، ثم يتولد من ساقها أغصانها، ومن الأغصان أوراقها أولاً ثم أنوارها وأزهارها ثانياً، ثم الفاكهة ثالثاً، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشور، مثل الجوز واللوز قشره الأعلى ذلك الجرم الأخضر، وتحته القشر الذي كالخشب، وتحته القشر الذي كالغطاء الرقيق المحيط باللبة، وتحته اللب المشتمل على جرم كثيف هو أيضاً كالقشرة، وعلى جرم لطيف هو الزهر، وهو المقصود بالذات، فتولدُ هذه الأجسام المختلفة طبعاً وصفة ولوناً وشكلاً وطعماً مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والعناصر والفصول الأربعة دال على القادر المختار بتلوه في الفرحة، وقد تجتمع الطبائع الأربعة في الفاكهة الواحدة كالأترج قشره حار يابس ونوره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه يابس حار رطب مع أنك تجد أحوالها مختلفة، بعضها لبه في داخله وقشره في خارجه كالجوز واللوز، وبعضها يكون المطلوب منه في الخارج وخشبه في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضه لا لب لنواه كالتمر، وبعضه يكون كله مطلوباً كالتين، واختلاف هذه الطبائع والأحوال المتضادة والخواص المتنافرة حتى في الحبة الواحدة لا يكون عن طبيعة، بل عن الواحد المختار، والحبوب مختلفة الألوان والأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف مخروط، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما وشكل الحمص على وجه آخر، وأودع سبحانه في كل نوع منها خاصية ومنفعة غير ما في الآخر، وقد تكون الثمرة غذاء لحيوان وسمّاً لحيوان آخر، فهذا الاختلاف مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب دالّ على أنها إنما حصلت بالفاعل المختار، ثم إنك تجد في ورقة الشجرة خطاً في وسطها مستقيماً نسبته لتلك الورقة نسبة النخاع إلى بدن الإنسان، ينفصل عنه خيوط مختلفة، وعن كل واحد منها خيوط أخرى أدق من الأولى، ولا يزال على هذا النهج حتى تخرج الخيوط عن الحس والبصر، كما أن النخاع يتفصل منه أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في البدن، ثم لا يزال يتفصل عن كل شعبة أخرى، ولا يزال يستدق حتى تلطف عن الحس، فعل سبحانه ذلك في الورقة لتقوى القوى المذكورة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، فهذا يعلمك أن عنايته سبحانه في اتخاذ جملة تلك الشجرة أكمل، فعنايته في تكوين جملة النبات أكمل، وهو إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان فعنايته في تخليق الحيوان أكمل، والمقصود من تخليق جملة الحيوان هو الإنسان فعنايته في تخليقه أكمل، وهو سبحانه إنما خلق الحيوان والنبات في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده، والمقصود من جسده حفظ تركيبه لأجل المعرفة والمحبة والعبودية، فسبيلك أن تنظر في ورقة الشجرة وتتأمل في تلك الأوتار ثم تترقى منها إلى أوج تخليق الشجرة ثم إلى ما فوقها رتبة رتبة لتعلم أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، وحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له، ويظهر لك أن نعم الله في خلقك غير متناهية

‏{‏وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏- والله الهادي‏.‏

ولما كان فلقهما عن النبات من جنس الإحياء لما فيه من النمو فسر معنى الفلق وبينه إشارة إلى الاعتناء به وقتاً بعد وقت بقوله‏:‏ ‏{‏يخرج‏}‏ أي على سبيل التجدد والاستمرار تثبيتاً لأمر البعث ‏{‏الحي‏}‏ أي كالنجم والشجر والطير والدواب ‏{‏من الميت‏}‏ من الحب والنوى والبيض والنطف فكيف تنكرون قدرته على البعث؛ ولما انكشف معناه وبان مغزاه بإخراج الأشياء من أضدادها لئلا يتوهم- لو كان لا يخرج عن شيء إلا مثله- أن الفاعل الطبيعة والخاصية، عطف على ‏{‏فالق‏}‏ زيادة في البيان قوله معبراً باسم الفاعل الدال على الثبات لأنه لا منازعة لهم فيه، فلم تدع حاجة إلى التعبير بالفعل الدال على التجدد‏:‏ ‏{‏ومخرج الميت‏}‏ أي من الحب وما معه ‏{‏من الحي‏}‏ أي من النجم وما معه‏.‏

ولما تقررت له سبحانه هذه الأوصاف التي لا قدرة أصلاً لأحد غيره على شيء منها، قال منبهاً لهم على غلطهم في إشراكهم، إعلاماً بأن كل شريك ينبغي أن يساوي شريكه في شيء ما من الأمر المشرك فيه، ولا مكافئ له سبحانه وتعالى في شيء من الأشياء فلا شريك له بوجه‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي العالي المراتب المنيع المراقي هو ‏{‏الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال وحده فلا يحق الإلهية إلا له؛ ولما كان هذا معنى الكلام، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأنَّى‏}‏ أي فكيف ومن أيّ وجه ‏{‏تؤفكون *‏}‏ أي تصرفون وتقلبون عما ينبغي اعتقاده‏.‏

ولما وصف سبحانه وتعالى نفسه المقدسة من فلق الجواهر بما اقتضى حتماً اتصافه بصفات الكمال، وقدمه لكونه من أظهر أدلة القدرة على البعث الذي هذا أسلوبه، مع الإلف له بقربه ومعالجته، أتبعه ما هو مثله في الدلالة على الإحياء لكنه في المعاني وهو سماوي، شارحاً لما أشار إليه الخليل عليه السلام في محاجة قومه من إبطال إلهية كل من النور والظلمة والكواكب التي هي منشأ ذلك، فقال ترقية من العالم السفلي إلى العالم العلوي‏:‏ ‏{‏فالق الإصباح‏}‏ أي موجده، وحقيقته‏:‏ فالق ظلمة الليل عن الصباح، لكنه لما كثر استعماله وأمن اللبس فيه أسند الفعل إلى الصبح، كما يقال‏:‏ انفجر الصبح، وانفجر عنه الليل، ويمكن أن يراد بالفلق الكشف، لأنه يكشف من المفلوق ما كان خفياً، فعبر عن المسبب الذي هو الإظهار بالسبب الذي هو الفلق، وعبر عن الصباح بهذه الصيغة التي يقال المدخول في الصبح لتصلح لإرادة فلق السكون بالنور أو غيره عن التصرف بالحركة المرتبة على الدخول في الصبح، فدلنا ذلك على وجاعل الإصباح حركة وسادل الليل ‏{‏وجاعل الَّيل‏}‏ بما يكون من إظلامه ‏{‏سكناً‏}‏ يسكن الناس فيه وإليه ويستريحون فيه، فالآية من الاحتباك‏:‏ حذف من الأول الحركة ودل عليها بالسكن، وحذف من الثاني السدل ودل عليه بالفلق، وهذا الفلق من أعظم الدلائل على قدرته سبحانه، وفيه دلالتان لأن الإصباح يشمل الفجر الكاذب والصادق، والأول أقوى دلالة لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع- الذي تكون تلك الدائرة أفقاً له- تطلع الشمس من مشرقه، فيضيء في ذلك الموضع نصف كرة الأرض، فيحصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتك، ويكون ذلك الضوء منتشراً مستطيراً في جميع الجو، ويجب أن يقوى لحظة فلحظة، فلو كان الأول من قرص الشمس لامتنع أن يكون خطاً مستطيلاً، بل كان يجب أن يكون مستطيراً في الأفق منتشراً متزايداً لحظة فلحظة، لكن ليس هو كذلك، فإنه يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى شبهته العرب بذنب السِرحان ثم يحصل عقبه ظلمة خالصة، ثم يكون الثاني الصادق المستطير فكان الأول أدل على القدرة، لأنه بتخليق الله ابتداء تنبيهاً على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بإبداعه، والظلمات ليس لها ثبات إلا بتقديره‏.‏

ولما ذكر الضياء والظلمة، ذكر منشأهما وضم إليه قرينه فقال عاطفاً على محل ‏{‏والليل‏}‏ لأن جاعلاً ليس بمعنى المضيء فقط لتكون الإضافة حقيقية، بل المراد استمراره في الأزمنة كلها‏:‏ ‏{‏والشمس‏}‏ أي التي ينشأ عنها كل منهما، هذا عن غروبها وهذا عن شروقها ‏{‏والقمر‏}‏ أي الذي هو آية الليل ‏{‏حسباناً‏}‏ أي ذويّ حسبان وعَلَمَين عليه، لأن الحساب يعلم بدورهما وسيرهما، وبسبب ذلك نظم سبحانه مصالح العالم في الفصول الأربعة، فيكون عن ذلك ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات، وعبر عنهما بالمصدر المبني على هذه الصيغة البليغة إشارة إلى أن الحساب بهما أمر عظيم كبير النفع كثير الدخول، مع ما له من الدنيا في أبواب الدين فهو جل نفعهما الذي وقع التكليف به، فكأنه لما كان الأمر كذلك، كان حقيقتهما التي يعبر عنهما بها، وأما غير ذلك من منافعهما فلا مدخل للعباد فيه‏.‏

ولما كان هذا أمراً باهراً ووصفاً قاهراً، أشار إليه بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي التقدير العظيم الذي تقدم من الفلق وما بعده ‏{‏تقدير العزيز‏}‏ أي الذي لا يغالب فهو الذي قهرهما على ما سيّرهما فيه، وغلب العباد على ما دبر من أمرهم بهما، فلو أراد أحد أن يجعل ما جعله من النوم يقظة واليقظة نوماً، أو يجعل محل السكن للحركة أو بالعكس أو غير ذلك مما أشارت إليه الآية لأعياه ذلك ‏{‏العليم *‏}‏ أي الذي جعل ذلك بعلمه على منهاج لا يتغير وميزان قويم لا يزيغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

ولما ذكر ذلك، أتبعه منفعة أخرى تعمهما مع غيرهما مبيناً ما أذن فيه من علم النجوم ومنافعها فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي جعل‏}‏ ولما كانت العناية بنا أعظم، قدم قوله‏:‏ ‏{‏لكم النجوم‏}‏ أي كلها سائرها وثابتها وإن كان علمكم يقصر عنها كلها كما يقصر عن الرسوخ والبلوغ في علم السير للسيارة منه ‏{‏لتهتدوا‏}‏ أي لتكلفوا أنفسكم علم الهداية ‏{‏بها‏}‏ لتعلموا القبلة وأوقات الصلوات والصيام وغير ذلك من منافعكم دنيا وديناً‏.‏

ولما كانت الأرض والماء ليس لهما من نفسهما إلا الظلمة، وانضمت إلى ذلك ظلمة الليل، قال‏:‏ ‏{‏في ظلمات البر‏}‏ أي الذي لا عَلَم فيه، وإن كانت له أعلام فإنها قد تخفى ‏{‏والبحر‏}‏ فإنه لا عَلَم به، والإضافة إليهما للملابسة أو تشبيه الملبَّس من الطرق وغيرها بالظلمة؛ روى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جزء جمعه في النجوم من طريق أحمد بن سهل الأشناني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ تعلموا من النجوم ما تهتدون في البر والبحر ثم انتهوا، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم وتعرفون ما يحل لكم ويحرم عليكم من النساء ثم انتهوا‏.‏ وفيه من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته على المسند عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا علي‏!‏ أسبغ الوضوء وإن شق عليك، ولا تأكل الصدقة ولا تنز الحمير على الخيل، ولا تجالس أصحاب النجوم» وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لا تسألوا عن النجوم، ولا تفسروا القرآن برأيكم، ولا تسبوا أصحابي، فإن ذلك الإيمان المحض» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النظر في النجوم- رواه من طرق كثيرة؛ وعن عائشة رضي الله عنها مثله سواء، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا»- رواه من طرق وأسند عن قتادة قوله تعالى ‏{‏وأنهاراً وسبلاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15‏]‏ قال‏:‏ طرقاً ‏{‏وعلامات‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 16‏]‏ قال‏:‏ هي النجوم، قال‏:‏ إن الله عز وجل إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال‏:‏ جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها شيئاً غير ذلك فقد أخطأ حظه وقال رأيه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به- في كلام طويل حسن، وهذا الأثر الذي عن قتادة أخرجه عنه البخاري في صحيحه، وقال صاحب كنز اليواقيت في استيعاب المواقيت في مقدمة الكتاب‏:‏ واعلم أن العلم منه محمود، ومنه مذموم لا يذم لعينه، إنما يذم في حق العباد لأسباب ثلاثة‏:‏ أولها أن يكون مؤدياً إلى ضرر كعلم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن به وأنه سبب للتفرقة بين الزوجين، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم ومرض بسببه، حتى أخبره جبرئيل عليه السلام وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر- كما ورد في الحديث الصحيح؛ ومعرفة ذلك من حيث إنه معرفة ليس مذموماً، أو من حيث إنه لا يصلح إلا لإضرار بالخلق يكون مذموماً‏.‏

والوسيلة إلى الشر شر؛ الثاني أن يكون مضراً بصاحبه في غالب الأمر كالقسم الثاني من علم النجوم الاحكامي المستدل به على الحوادث بالأسباب كاستدلال الطبيب بالنبض على ما يحدث من المرض، وهو معرفة مجاري سنة الله وعادته في خلقه، ولكنه ذمه الشرع وزجر عنه لثلاثة أوجه‏:‏ أحدها أنه يضر بأكثر الناس فإنه إذا قيل‏:‏ هذا الأمر لسبب سير الكواكب، وقر في نفس الضعيف العقل أنه مؤثر، فينمحي ذكر الله عن قلبه، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط بخلاف العالم الراسخ، فإنه يطلع على الشمس والقمر والنجوم مسخرات، وفرق كبير بين من يقف مع الأسباب وبين من يترقى إلى مسبب الأسباب، ثم ذكر ما حاصله أن السبب الثاني في النهي عنه أنه تخمين لا يصل إلى القطع؛ والثالث أنه لا فائدة فيه، فهو خوض في فضول، وأن السبب الثالث مما يذم به ما يذم من العلوم أنه مما لا تبلغه عقول أكثر الناس ولا يستقل به، ولا ينكر كون العلم ضاراً لبعض الأشخاص كما يضر لحم الطير بالرضيع- انتهى‏.‏ وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» وقال صاحب كتاب الزينة في آخر كتابه بعد أن ذكر العيافة والزجر ونحوهما، ويأتي أكثره عنه في سورة الصافات‏:‏ وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إياكم والنجوم‏!‏ فإنها تدعو إلى الكهانة»، قال‏:‏ هذه الأشياء كلها لها أصل صحيح، فمنها ما كانت من علوم الأنبياء مثل النجوم والخط وغير ذلك، ولولا الأنبياء الذين أدركوا علم النجوم وعرفوا مجاري الكواكب في البروج وما لها من السير في استقامتها ورجوعها، وما قد ثبت وصح من الحساب في ذلك بما لا ارتياب فيه، لما قدر الناس على إدراكه، وذلك كله بوحي من الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام، وقد روي أن إدريس عليه السلام أول من علم النجوم، وروي في الخط أنه كان علم نبي من الأنبياء، ولولا ذلك لما أدرك الناس هذه اللطائف ولا عرفوها‏.‏

ولما كانت هذه الآيات قد بلغت في البيان حداً علا عن طوق الإنسان والملائكة والجان لكونها صفة الرحمن، فكانت فخراً يتوقع فيه التنبيه عليه فقال‏:‏ ‏{‏قد فصلنا‏}‏ أي بينا بياناً شافياً على ما لنا من العظمة ‏{‏الآيات‏}‏ واحدة في إثر واحدة على هذا الأسلوب المنيع والمثال الرفيع؛ ولما كانت من الوضوح في حد لا يحتاج إلى كثير تأمل قال‏:‏ ‏{‏لقوم يعلمون *‏}‏ أي لهم قيام فيما إليهم، ولهم قابلية العلم ليستدلوا بها بالشاهد على الغائب‏.‏

ولما ذكر سبحانه بعض هذا الملكوت الأرضي والسماوي، أتبعه- كما مضى في أول السورة- الخلق المفرد الجامع لجميع الملكوت، وهو الإنسان، دالاً على كمال القدرة على كل ما يريد، مبطلاً بمفاوتة أول الإبداع وآخر الآجال ما اعتقدوا في النور والظلمة والشمس والقمر وغيرهما، لأن واحداً منها لا اختيار له في شيء يصدر عنه، بل هو مسخر ومقهور كما هو محسوس ومشهور، فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي أنشأكم‏}‏ أي وأنتم في غاية التفاوت في الطول والقد واللون والشكل وغير ذلك من الأعراض التي دبرها سبحانه على ما اقتضته حكمته ‏{‏من نفس واحدة‏}‏ ثم اقتطع منها زوجها ثم فرّعكم منهما‏.‏

ولما كان أغلب الناس في الحياة الدنيا يعمل عمل من لا يحول ولا يزول، لا يكون على شرف الزوال ما دامت فيه بقية من حياة، قال‏:‏ ‏{‏فمستقر *‏}‏ أي فسبب عن ذلك أنه منكم مستقر على الأرض- هذا على قراءة ابن كثير وابن عمر وبكسر القاف اسم فاعل، والمعنى في قراءة الباقين بفتحه اسم مكان ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ولما كان من في البرزخ قد كشف عنهم الغطاء فهم موقنون بالساعة غير عاملين على ضد ذلك، وكذا من في الصلب والرحم، عبر بما يدل على عدم الاستقرار فقال‏:‏ ‏{‏ومستودع‏}‏ أي في الأصلاب أو الأرحام أو في بطن الأرض، فدلت المفاوتة من كل منهما- مع أن الكل من نفس واحدة- على القادر المختار، لا يقدر غيره أن يعكس شيئاً من ذلك، وكل ذلك مضمون الآيتين في أول السورة، وقدم الإصباح والليل ومتعلقهما لتقدمهما في الخلق، ثم تلاه بخلق الإنسان على حسب ما مرّ أول السورة، وذكر هنا أنه جعل ذلك الطين نفساً واحدة فرّع الإنس كلهم منها مع تفاوتهم فيما هناك وفي غيره‏.‏

ولما ذكر هذا المفرد الجامع، وفصّله على هذه الوجوه المعجبة، كان محلاً لتوقع التنبيه عليه فقال‏:‏ ‏{‏قد فصلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏الآيات‏}‏ أي أكثرنا بيانها في هذا المفرد الجامع في أطوار الخلقة وأدوار الصنعة، تارة بأن يكون من التراب بشر، وأخرى بأن يخرج الأنثى من الذكر، وتارة بأن يفرّع من الذكر والأنثى ما لا يحيط به العد ولا يجمعه الخبر من النطفة إلى الولادة إلى الكبر‏.‏

ولما كان إنشاء الناس من نفس واحدة وتصريفهم على تلك الوجوه المختلفة جداً ألطف وأدق صنعة، فكان ذلك محتاجاً إلى تدبر واستعمال فطنة وتدقيق نظر، قال‏:‏ ‏{‏لقوم يفقهون *‏}‏ أي لهم أهلية الفقه والفطنة‏.‏